القول المعتبر في بيان ما في الحَر من المواعظ والعبر
2022-12-31 16:12:14
*خطبة جمعة بعنوان(القول المعتبر في
بيان ما في الحَر من المواعظ والعبر)*
*لشيخنا المبارك : أبي بكر الحمادي
حفظه الله*
*سجلت بتأريخ ٢٦ / شوال/ ١٤٤٣ هجرية*
*مسجد المغيرة بن
شعبة مدينة القاعدة محافظة إب حرسها الله وسائر بلاد المسلمين*
إن الحمد لله،
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده
الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
[آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ
اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71]
أما بعد:فإن خير
الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وشر الأمور
محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
جاء في مسند
الإمام أحمد وعند الطبراني وابن حبان وعند غيرهم، عن خولة بنت قيس رضي الله عنها،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"
ابنُ آدمَ إن
أصابه البردُ قال : حَسِّ ، و إن أصابه الحرُّ قال : حَسِّ.
والمعنى أنه يتألم
منهما، يتألم من الحر إذا ما نزل به، ويتألم من البرد إذا ما نزل به، ولله سبحانه
وتعالى في ذلك الحكم البالغة، وإنما يجهل ذلك كثير من الخلق، يظهرون التألم منهما،
التألم من الحر والتألم أيضا من البرد، مع أن الله سبحانه وتعالى له فيهما المنفعة
العظيمة. فالحر من نعم الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى خلقه لحكمة بالغة، وما
أوتيتم من العلم إلا قليلا، وفيه ما فيه من المصالح في الأبدان، وفي معايش الناس،
مصالح للعباد في أبدانهم، ومصالح للعباد كذلك في معاشهم، في الثمار ونحوها، والله
سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله، فهو الحكيم، واسمه الحكيم سبحانه وتعالى، وهنالك
حكم أخرى في خلق الله عز وجل في الحر، مع
ما في ذلك المنافع للناس في أبدانهم، وفي زروعهم، وفي ثمارهم كذلك لله عز وجل
الحكم الأخرى، فإن الحر يذكر بالحر، أي بأشده وهو حر نار جهنم والعياذ بالله، قال
الله :{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
(81)}[التزبة:81].
فيدعو ذلك العبد
إلى التذكر، وإذا ما تذكر العبد فإنه يسعى في التخلص من الحر الأعظم ومن أشد الحر
وأبلغه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام
:" إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ، فأبْرِدُوا بالصَّلَاةِ،
فإنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ. البخاري(533)
ومسلم(650).
فإن شدة الحر من
فيح جهنم: أي من اتساعها ومن غليانها، فأشد ما يجده الناس من الحر فهو من جهة جهنم
والعياذ بالله، أخبرنا بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن شدة الحر من فيح جهنم،
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:"اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: يا رَبِّ
أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ،
وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما
تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ.البخاري(3260) ومسلم(617).
أي أشد ما تجدونه
من الحر فمن نفسها الذي في الصيف، وأشد ما تجدونه من الزمهرير أي من البرد فمن
نفسها الذي في الشتاء، فأشد الحر من نفس جهنم والعياذ بالله، أكل بعضي بعضا، هكذا
تخاطب ربها سبحانه وتعالى، فأذن الله سبحانه وتعالى لها بنفسين حتى يحصل لها
التخفيف، نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدونه من الحر فمن نفسها الذي في
الصيف، وأشد ما تجدونه من الزمهرير أي من البرد فمن نفسها الذي في الشتاء، فهذه
موعظة وذكرى، يتذكر الإنسان حر جهنم فيسعى في التخلص من ذلك بطاعة ربه سبحانه
وتعالى، والإستقامة على الدين الصحيح على دين الإسلام، في العقيدة وفي التوحيد،
وفي الأعمال
حتى ينجو العبد من
أشد الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، والله سبحانه وتعالى يجعل لعباده
العظة والذكرى في حياتهم قبل انتقالهم إلى الدار الآخرة، فالحر يذكر بحر جهنم
والعياذ بالله، والنار في الدنيا تذكر بنار جهنم والعياذ بالله، قال سبحانه وتعالى
في كتابه الكريم:{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ
أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72) نَحْنُ
جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ (73)}[الواقعة:71،73]
جعل الله عز وجل
نار الدنيا تذكرة تذكر العباد بنار جهنم حتى يعملوا لذلك اليوم ويتقوا حرها، فإن
من زحزح عنها فهو سعيد؛ قال الله:{فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ
وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}[آل عمران:185].
الحر في الدنيا
ليس كلاشيء أمام الحر في جهنم والعياذ بالله، فأشد الحر في نار جهنم كما أخبرنا
بذلك سبحانه وتعالى، قال الله :{انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ
(29) انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَّا
ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ
كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ
صُفْرٌ (33)}[المرسلات:29،32]
انطلقوا إلى ما
كنتم به تكذبونه في الدنيا، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، ظل من نار جهنم والعياذ
بالله، له ثلاث شعب ومن أراد أن يستظل به فإنه لا ينفعه، والظلال في الدنيا ينتفع
الناس بها في الحر يتظللون بالأشجار، ويتظللون في مساكنهم من شدة الحر، فيحصل لهم
ما يحصل من اتقاء الحر ومن برودة الجو، أما في نار جهنم فإن الظل لا ينفع، انطلقوا
إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل، ما يحصل مقصود الظل
ولا يغني من اللهب، وظل الدنيا يحصل به برودة، ويغني العبد من حرارة الشمس، أما ظل
الآخرة فلا، قال الله :{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ
الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن
يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)}[الواقعة:41،44]
السموم شدة الحر،
والحميم هو الماء الحار، الذي بلغ مبلغا عظيما في الحرارة والغليان، وأصحاب الشمال
ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم، كذلك الظل من دخان أسود، وظل من
يحموم لا بارد ولا كريم، ذلك الظل لا يحصل به البرودة كما يحصل بالظل في الدنيا،
ولا كريم ليس له منظر حسن، لا منظر حسن ولا برودة، وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال
في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم، فهم في أشد الحر وفي أعظمه، حر في
الجو وهو السموم، وحر في شرابهم وفي طعامهم، قال سبحانه وتعالى:{وَإِن
يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ
الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)}[الكهف:29].
إن أرادوا الماء
واستغاثوا فإنهم يجابون لكن بشراب في نهاية الحرارة والغليان، إذا أقترب الماء من
وجوههم فإن الوجه يحترق، يحترق الوجه بمجرد اقتراب الإناء من وجوههم قبل أن يدخل
الماء إلى أجوافهم، يشوي الوجوه هذا عند اقترابه، فكيف إذا دخل في أجوافهم، فإن
دخل في أجوافهم صهرها، صهر ما في أجوافهم،
وصهر جلودهم، كما قال سبحانه وتعالى :{هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ ۖ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ
مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ
وَالْجُلُودُ (20)وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)}[الحج:19،21]
يصب الماء من على
رؤوسهم مع شدة الحر فإذا ما صب الماء من على رؤوسهم فإن ما في أجوافهم ينصهر
ويذوب، والجلود تنصهر وتذوب، ويعيدهم الله سبحانه وتعالى كما كانوا، فهم في حر
شديد، الهواء سماه الله سبحانه وتعالى سموم وهو شدة الحر، الماء الذي يشربونه يشوي
الوجوه عند اقترابه من وجوههم فكيف إذا دخل إلى أجوافهم، الماء الذي يغتسلون به
إذا صب على رؤوسهم فإنه يصهر ما في أجوافهم ويصهر الجلود، وإذا أرادوا الظل فالظل
في شدة الحرارة، ليس ببارد ولا كريم، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون، فلنفقه
كلام الله سبحانه وتعالى، ولنتعظ بمواعظ القرآن، ولنخشى على أنفسنا من ذلك اليوم
الذي لا ينجو منه إلا من عمل صالحا، إلا من كان تقيا لربه سبحانه وتعالى، خائفا من
ربه، من كان عاملا بطاعة الله عز وجل، بل كان مبتعدا عن معصية الله، فإن الحر في
الدنيا يتقى بأسباب يسيرة، وحر الآخرة ايضا فيتقى بطاعة الله عز وجل، يتقى بتقوى
الله سبحانه وتعالى، يتقى بالبعد والابتعاد عن معصية رب الأرض والسماوات سبحانه
وتعالى، فلنخشى على أنفسنا من ذلك الحر
الشديد فإنه أشد الحر وأعظم الحر، إذن
الحر في الدنيا يذكر بحر الآخرة وهو موعظة من الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى
يبتلي العباد بالحر وقد يعذبهم بالحر أيضا في الدنيا، يبتليهم بالحر وقد يعذبهم
بالحر، فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد في الحر بأنواع الطاعات، وينظر من
يتبع هواه ومن هو طائع لربه سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه وتعالى:{فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا
فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
(81)فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82)}[التوبة:81،82].
ابتلاهم الله
سبحانه وتعالى بأن أمرهم بجهاد الكافرين في وقت اشتد فيه الحر ابتلاء من الله عز
وجل، ينظر الطائعين له سبحانه وتعالى، ومن لم يكن كذلك، ليعلم المتقين من غيرهم، فهنالك من أطاع الله
عز وجل وخرج بالحر طاعة من الله عز وجل يريد أن يتقي الحر، خرج في حر الدنيا يريد
أن يتقي حر الآخرة، وهنالك من اتقى حر الدنيا ووقع في حر الآخرة والعياذ
بالله،{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
(81)فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (82)}[
هذا واستغفر الله
إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: اعلموا معاشر المسلمين أن الله
سبحانه وتعالى كما يبتلي العباد بالحر كذلك ربما ينزل عليهم العذاب به، والله يفعل
ما يشاء، والله حكم عدل لا يظلم العباد، أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن قوم شعيب
الذين حصل منهم ما حصل من الإشراك بالله، ومن التلاعب بالكيل والميزان، كانوا
يطففون الكيل والوزن، يظلمون العباد في أموالهم، في طعامهم، وفيما يحتاجون إليه،
يطففون الكيل والميزان مع كفرهم برب العالمين سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى:{
فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(189)إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
(190)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}[الشعراء:189،191].
اخذهم عذاب يوم
الظلة، ذكر العلماء أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بحر شديد، حصل ما حصل منه من
العذاب الأليم، فصار الواحد منهم يشتوي كما تشتوي الجراد في النار، من شدة الحر،
إلى هذا الحد بلغ بهما الحر، إلى أن من خرج في الشمس اشتوى كما تشوى الجراد، نقمة
وعذاب من الله سبحانه وتعالى، حر شديد لا نظير له في حر الدنيا، بلغ بهم إلى هذا
الحال، فكانوا يريدون برودة الجو لا يجدونها في بيوتهم، ولا يجدونها في المغارات
في الجبال، ولا في تحت الظلال في حر شديد، فأخرج الله سبحانه وتعالى لهم سحابة وهي
الظلة سحابة فيها ريح باردة فاتجهوا إلى تلك السحابة يتظللون من شدة الحر في
ظلها، ويتنسمون نسيمها، وجدوا فيها برود
الجو، فتنادوا فيما بينهم ، واجتمعوا تحتها فجعلها الله سبحانه وتعالى عليهم نارا
موقدة، جعلها الله سبحانه وتعالى عليهم نارا مشتعلة، فعذبهم الله سبحانه وتعالى
وأهلكهم ووصف الله وتعالى ذلك بالعذاب العظيم جزاء وفاقا، يفعل الله ما يشاء وهو
العدل سبحانه وتعالى، فيبتلي الله سبحانه وتعالى بالحر، ويعذب الله سبحانه وتعالى
بالحر، والله سبحانه وتعالى من نعمته ورحمته بالعباد أن هيأ لهم أسباب يتقون بها
الحر، كما قال سبحانه وتعالى والله:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ
ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ
تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}[النحل:81].
فبين سبحانه
وتعالى أنه جعل لنا مما خلق الظلال نستظل تحتها من الحر، كظلال الأشجار، ولهذا جاء
الوعيد الشديد في حق من يؤذي الناس في ظلالهم، كما جاء مسلم(269) عن أبي هريرة رضي
الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"
أنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قالَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قالوا: وَما
اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ،
أَوْ في ظِلِّهِمْ.
أي يقضي حاجتهم في
ظل الناس أي تحت الأشجار التي يستظلون تحتها من الحر، فيأتي الناس إلى الاشجار
للاستظلال لشدة الحر فيجدون الأذى فيتأذون من ذلك، وهكذا في طرق الناس يقضي حاجته
في طرق الناس، فهما من أسباب اللعن، كما أخبرنا بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام،
فجعل الله سبحانه وتعالى من رحمته لنا الظلال نستظل بها، وهكذا المنازل البيوت
نستظل بها، وهكذا جعل الله سبحانه وتعالى لنا الألبسة نتقي حر الشمس بها، كل ذلك
من نعمة الله عز وجل، ونعم الله سبحانه تعالى يجب أن تشكر، وهكذا جعل لنا أسبابا
نتقي بها حر الآخرة كما عرفنا بتقوى الله سبحانه وتعالى، ومن الحر الشديد الحر في
أرض المحشر، فإنه من الحر الشديد، فقد جاء
في صحيح الامام مسلم(2864) من حديث المقداد بن عمرو بن الأسود رضي الله عنه، عن
رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال:"تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيامَةِ
مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ منهمْ كَمِقْدارِ مِيلٍ -قالَ سُلَيْمُ بنُ عامِرٍ:
فَواللَّهِ ما أدْرِي ما يَعْنِي بالمِيلِ؛ أمَسافَةَ الأرْضِ، أمِ المِيلَ الذي
تُكْتَحَلُ به العَيْنُ؟- قالَ: فَيَكونُ النَّاسُ علَى قَدْرِ أعْمالِهِمْ في
العَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى
رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يُلْجِمُهُ
العَرَقُ إلْجامًا. قالَ: وأَشارَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ
بيَدِهِ إلى فِيهِ.
يصل العرق إلى حد
أذنيه، ينغمس في العرق ويرتفع العرق من الأرض حتى يصل إلى هذا المقدار من شدة الحر
في ذلك اليوم، في البخاري (6532) واللفظ له، ومسلم (2863)
من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه، عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:" يَعْرَقُ الناسُ يومَ
القيامةِ حتى يَذْهَبَ عَرَقُهُم في الأرضِ سبعينَ ذِرَاعًا ، ويُلْجِمُهُم حتى
يَبْلُغَ آذانَهم.
العرق يذهب في
الأرض سبعين ذراعا، يعرق الناس من شدة الحر حتى يذهب العرق في الأرض إلى سبعين
ذراعا ثم يرتفع حتى يبلغ إلى الأذان، ينغمس عرق الشخص إلى الأرض إلى سبعين ذراع في
الأرض ثم يتصاعد العرق من الأرض ويرتفع حتى يصل بأناس إلى آذانهم، ينغمسون في
العرق إلى آذانهم، ومنهم من يصل إلى كعبيه، ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه، ومنهم
من يصل العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق الجاما، كما أخبرنا بذلك نبينا عليه
الصلاة والسلام، وذلك اليوم مقداره خمسون ألف سنة، خمسون ألف سنة لو كانت مقداره
عشر ساعات لكان شيئا عظيما، الناس لا يطيقون الحر في الدنيا وهو عبارة عن ثلاث
أشهر، ثلاثة أشهر وحر يتقى، حر يسير يتقى ما بلغ هذا المبلغ، الحر يوم قيامة في
أرض المحشر قبل أن يرى العبد مآله ومصيره إلى الجنة أو إلى النار، ما زال الناس في
أرض المحشر ويبلغ بهم الحال إلى هذا الحد، والعرق إلى هذا الحد، وفي يوم مقداره
خمسون ألف سنة، ما هو ألف سنة، وإنما خمسون ألف سنة، يوم عظيم، وجعل الله سبحانه
وتعالى للعباد ما يتقون به ذلك الحر، فيتقون ذلك الحر بطاعة الله عز وجل، فهنالك
من يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ما في أشياء تظل الناس، ولا
منازل،ولا خيام تظل الناس، لا ظل إلا ظل العرش، بل عرش الرحمن سبحانه وتعالى، في
الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام:"سَبْعَةٌ
يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ
عَدْلٌ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، أي من صغره وهو في عبادة الله عز
وجل. ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، إذا خرج منها يريد أن يرجع
إليها، قال الله:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)رِجَالٌ لَّا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ (37)}
فقلوبهم معلقة
بالمساجد لا بتجاراتهم ولا بأموالهم، وإنما إذا سمعوا النداء بحي على الصلاة حي
على الفلاح يتجهون إلى بيوت الله عز وجل ويؤدون فرائض الله، قلوبهم معلقة بالمساجد
رجال ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، اجْتَمعا
عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ
فَقالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا
تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا،
فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.البخاري (1423)، ومسلم (1031)
فهؤلاء يظلهم ظله
يوم لا ظل إلا ظله، وفي مسلم من حديث أبي اليسر رضي الله عنه، عن رسول الله عليه
الصلاة والسلام أنه قال:"من أنظر معسرا أو وضع عنه آخر اجل الدين. حل الأجل
فاخره، لأنه معسر فقير، أو وضع عنه، إما أن يسقط عنه الدين بالكلية يعفو عنه، أو
يضع عنه بعض الدين ويخفف عنه ذلك، قال من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله، فذاك الحر هو الذي يتقى في الحقيقة حر يوم القيامة، وحر نار
جهنم ويتقى ذلك بطاعة الله عز وجل.
اسأل الله سبحانه
وتعالى أن يقينا والمسلمين حر جهنم، وحر أرض المحشر، إنه على كل شيء قدير، اللهم
ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها وأولها
وآخرها وعلنيتها وسرها، اللهم اهدنا إلى الصراط المستقيم واجعلنا هداة مهتدين غير
ضالين ولا مضلين، اللهم أغثنا يا رب العالمين،
اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم أغث البلاد
والعباد، اللهم أغث البلاد والعباد، اللهم أغثنا برحمتك فأنت أرحم الراحمين، اللهم
ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، والحمد
لله رب العالمين.