الرئيسية / الخطب والمحاضرات/ الخطب /وابل الغمام في تفسير آية ويطعمون الطعام
وابل الغمام في تفسير آية ويطعمون الطعام 2023-01-02 03:50:04


*خطبة جمعة بعنوان :(وابل الغمام في تفسير آية ويطعمون الطعام)*
 
*لشيخنا المبارك أبي بكر الحمادي حفظه الله*
 
*سجلت بتأريخ ١٦/ من ذي الحجة/١٤٤٣ هجرية*
 
*مسجد النور الزرعان مدينة القاعدة محافظة إب حرسها الله وسائر بلاد المسلمين*
 
 
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71]
أما بعد:فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)}[الإنسان:8،12]
إلى آخر الآيات.
وهؤلاء الذين أثنى الله سبحانه عليهم وأعطاهم هذه المكرمات هم الأبرار، فبين الله سبحانه وتعالى شيئاً من صفاتهم، وأنهم يطعمون الطعام، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ويطعمون الطعام فذكر الله سبحانه وتعالى هذه الصفة من صفاتهم، ويطعمون الطعام، ولم يقل سبحانه وتعالى ويؤتون الطعام، وهذا يدل على أنهم يطعمون طعاماً جاهزاً معداً للآكلين، فقال طعاماً مطعوماً جاهزاً معداً للآكلين، ممن ذكرهم الله عز وجل، من المساكين، ومن اليتامى، ومن الأسرى، ويطعمون الطعام على حبه، أي على حبهم لذلك الطعام، فهذا يدل على أن ذلك الطعام الذي يطعمونه من الطعام الجيد، من الطعام الذي يحبونه، فما يجعلونه لله عز وجل هو الطيب من أموالهم، الطيب من طعامهم، ويطعمون الطعام على حبه، فما كان محبوباً لهم أخرجوه وأنفقوه في مرضاة الله عز وجل، وهذا يدل على طيب نفوسهم، ويدل على تعظيمهم لربهم سبحانه وتعالى، فإنهم إن تصدقوا تصدقوا بالطيب من أموالهم، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:{لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92]
لن تنالوا البر وهؤلاء هم الأبرار الذين ذكرهم الله عز وجل في هذه السورة، فنالوا هذه الدرجة، وهذه الرفعة، وهذه المكانة، حين أنفقوا من طيبات أموالهم، لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، فهذه هي النفقة الكاملة، وهذه النفقة الشريفة التي يرتفع العبد بها الدرجات العالية عند ربه سبحانه وتعالى، وينال درجة الأبرار، قال سبحانه وتعالى:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}[البقرة:177].
والشاهد أن هؤلاء الأبرار أعطوا المال على حبهم لذلك المال، ومن أهل العلم من قام أي  على حبهم لربهم عز وجل، والأمر كذلك، فالذي دفعهم لذلك هو محبة الله عز وجل، وذلك المال الذي أخرجوه في مرضاة الله عز وجل من المال الكريم، من المال الشريف الذي يحبونه، لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وإخراج الخبيث في باب الصدقات والقربات مما لا يشرع ولا يجوز، فإن ربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}[البقرة:267]
فهو غني عن أموالنا، وهو الحميد سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، فحثنا ربنا سبحانه وتعالى على إخراج الطيب، ونهانا سبحانه وتعالى عن إخراج الخبيث في باب الصدقات والقربات، وبين لنا ربنا سبحانه وتعالى أن ذلك الشيء الخبيث الرديء لو أعطي أحدنا فإنه لا يقبل ذلك إلا عن إغماء، كالذي يغمض عينيه لكراهة ما يراى، لكراهة ما يرى فإن يغمض عينيه، ومن شاهد أو خشى من مشاهدة ما يكره فإنه يغمض عينيه حتى لا يتألم برؤية ذلك المكروه، وهكذا الطعام الرديء والمال الخبيث إن أعطيه ذلك الشخص لا يقبل ذلك الرديء إلا عن غضاضة وكراهة،  ويغمض عينيه حتى لا يرى ما يكره، فلا ينبغي ولا يجوز للعبد أن يتقرب إلى ربه بما يكره، ويجعل لنفسه ما يحب، فما كان من الأمر الطيب المحبوب جعله لنفسه، وما كان من الأمر الخبيث الرديء تقرب به إلى سبحانه وتعالى، فالله أولى بأن يتقرب إليه بالشيء الطيب،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ}
 وهكذا في قوله سبحانه وتعالى:{ويطعمون الطعام على حبه} قد يدل على حاجتهم إلى ذلك الطعام، فهم يرغبون فيه، وربما كان ذلك الطعام مما يحتاجون إليه، فيؤثرون غيرهم
 به رجاء الثواب من رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى :{وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ}[الحشر:9].
أي حاجة وفقر، {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
وهؤلاء الذين امتدحهم الله سبحانه وتعالى بهذا المدح هم الأنصار رضي الله عنهم الذين آووا المهاجرين، ونصروا الإسلام والمسلمين، نصروا رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وما بخلوا بشيء من أموالهم، بل قدموا المهاجرين على أنفسهم في مطعمهم وفي مشربهم وواسوهم في القليل والكثير رضي الله عنهم أجمعين،{وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
فهؤلاء الأبرار امتدحهم الله سبحانه وتعالى بهذا المدح فقال :{ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا}
وامتدحهم الله سبحانه وتعالى أنهم  يضعون النفقة في موضعها، فيضعون ذلك الطعام في موضعه، يضعونه في المساكين، ويضعونه في اليتامى، وفي الأسرى، فعندهم التحري عند أموالهم، لا ينفقون أموالهم في غير موضعه، كحال كثير من الناس ممن أعطاه الله سبحانه وتعالى المال وإذا به يصرف ماله في غير موضعه، ربما يصرف ما له للأغنياء، ولغير المحتاجين لما له من المآل منهم، ولما له من المقاصد من أولئك القوم، ويذر المستحقين من الفقراء والمساكين ومن اليتامى ومن أبناء السبيل، ومن غيرهم مما لهم الإستحقاق في باب الصدقات، فهؤلاء وفقهم الله سبحانه وتعالى فوضعوا أموالهم في مواضعها، هنالك من أعطاه الله المال وإذا به يصرف ماله فيما لا يليق، يصرف ماله في أمور لا تجوز شرعاً ويجود بالأموال الكثيرة في أمور تافهة، لا يشرع للإنسان أن يدفع فلساً واحداً من أجلها، فكيف بالأموال الطائلة؟ يصرف ماله هنا وهناك في غير مرضات الله عز وجل، فقليل من يوفق للخير، وهذا يدل على عدم الصدق، وعلى عدم الإخلاص، فإن الصادق المخلص يوفقه الله سبحانه وتعالى للخير، ومن كان بخلاف ذلك فإن الله عز وجل لا يوفقه أن يضع ماله في موضعه المناسب، ذكر عن بعض من مضى أنه أزدى بشيء من الخير والمعروف إلى رجل غير شاكر فلامه على عدم شكره على معروفه فقال: ذلك مال خرج من غير محتسب فوقع في غير شاكر.
فقد يكون الذي أنفق ماله ما عنده الاحتساب، ما يريد وجه الله عز وجل، فلا يوفقه الله عز وجل بأن يضع ماله في موضعه، فالخبيث في الخبيث، والطيب الطيب، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا، المسكين معروف، واليتيم من فقد أباه وهو دون سن البلوغ، والأسير معروف قد يكون من أسارى المشركين، وقد يكون من أسارى المسلمين، فعلى كل هؤلاء وضعوا أموالهم في مواضعها، وأطعموا هؤلاء لوجه الله عز وجل، فنالوا هذه المكرمات، ونالوا هذه الدرجات العاليات، هذا وأسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
 
 
*الخطبة الثانية:*
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: يقول سبحانه وتعالى في وصف هؤلاء الأبرار{ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا} فاطعموا هؤلاء وأحسنوا إليهم، والله يقول:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}[النساء:36].
وذم الله سبحانه وتعالى من لم يكن كذلك، فقال سبحانه وتعالى:{ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)لَّا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}[الحاقة:30،36].
من لا يرحم لا يرحم، ليس له حميم لأنه كان لا يرحم فقراء الناس،
فلا يحض على أهل الفقر والحاجة، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم، أن يكره اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ذمهم الله سبحانه وتعالى بذلك، وبين أن هؤلاء ممن لا يؤمن بالدين لا يؤمن بالبعث والنشور، لا يؤمن بيوم الجزاء، لا يؤمن بالساعة، لا يؤمن بيوم القيامة، فلهذا جره هذا الأمر إلى ما جره من هذه المخالفات، هؤلاء الأبرار يقول سبحانه وتعالى فيهم{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)}[الإنسان:8،9].
يطعمون هؤلاء لوجه الله عز وجل، عندهم الإخلاص لله عز وجل، وهو من شروط قبول العمل، ولا يريدون من العباد الجزاء على هذا الإحسان، ولا يريدون الشكر، لا يريدون الجزاء ولا يريدون الشكر، فإن هنالك من يعطي القليل ويريد الكثير، والله سبحانه وتعالى يقول :{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6)}[المدثر:6].
أي لا تعطي العطاء اليسير وتريد الشيء الكثير، فهذا يدل على عدم الإخلاص في النفقة وفي الصدقة، وإنه ما أراد بذلك وجه الله عز وجل،  وأما هؤلاء الأبرار فيقولون:{ إنما نطعمكم لوجه الله} إما بلسان حالهم وإما بلسان مقالهم،  إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، نفقة خالصة من وجه الله عز وجل، لا يريدون شكر الناس، فالذي يتصدق على الفقراء والمساكين ويقول لأحدهم أدع الله لي فإنه طلب الجزاء من ذلك المسكين، وهؤلاء لا يريدون الجزاء إلا من رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى طلب الدعاء هو طلب للجزاء على ذلك الإحسان، فمن أحسن لا يطلب شيئاً من الخلق، وإنما يطلب الجزاء من الخالق سبحانه وتعالى، فلا يطلب الجزاء ولا يريد من الناس الشكر أن يمدحونه، ويثنوا عليه خيرا بما فعل، فإن هذا دليل على عدم الإخلاص لله عز وجل في تلك النفقة، فهم يفعلون النفقة لوجه الله عز وجل، ليس في قلوبهم رياء للخلق، ولا يحصل منهم الأذى، ولا يحصل منهم المن، فإن هذه الأمور مبطلة للنفقات، قال الله:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}[البقرة: 262،264]
فهذه الثلاثة الأمور من مفسدات الصدقات؛ المن، والأذى، والرياء، وهؤلاء الأبرار ما كانوا كذلك، ما عندهم المن الذي يسدي المعروف ثم يتكلم بمعروفه، إما يخاطب صاحب المعروف في وجهه فعلت لك كذا وكذا، وأعطيتك كذا وكذا، وفي يومك ما كنت محتاج لكذا، وفعلت معك كذا، أو يتكلم مع الناس، ويبلغ الخبر إلى من أحسن إليه، فإن هذا من قبائح الأخلاق، ومن كبائر الذنوب، وفي مسلم(106) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ: المَنَّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الفاجِرِ، والْمُسْبِلُ إزارَهُ. وفي رواية: ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ولا يَنْظُرُ إليهِم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عذاب أليم.
والشاهد أن المن من هؤلاء الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فهذه كبيرة من الكبائر المهلكة، وفيها ما فيها من الأذى، وفيها ما فيها من إفساد المعروف والإحسان، قيل لبعض من مضى ألا تأخذ من ندى فلان أي من إحسانه ومعروفه؟ قال: ما حاجتي إلى ثمرة يقاربها زمبور، يعني آخذ تلك الثمرة ويلدغني ذلك الزنبور فلا حاجة لي بإحسان فيه منة، يحسن إلي بشيء ثم يمن علي فعلت وفعلت فأجد من الألم أكثر من إحسانه، فمن كان كذلك فهو من أصحاب الأخلاق القبيحة، الأخلاق السيئة،  يُحكى عن الإمام الشافعي رحمة الله عليه في الأبيات أنه كان يقول:لا تَحمِلَّنَّ لِمَن يَمَنُّ مِنَ الأَنامِ عَلَيكَ مِنَّه
وَاِختَر لِنَفسِكَ حَظَّها وَاِصبِر فَإِنَّ الصَبرَ جُنَّه
مِنَنُ الرِجالِ عَلى القُلوبِ أَشَدُّ مِن وَقعِ الأَسِنَّه.
 
فهذا من الأخلاق السيئة، ويقال الأيدي ثلاثة يد بيضاء ويد خضراء ويد سوداء، فاليد البيضاء يد صاحب المعروف الذي يأتي بالمعروف إبتداء من غير أن يُسأل، واليد الخضراء يد المكافى الذي من أحسن إليها أسدى الإحسان إلى من أحسن إليه، واليد السوداء يد المنان الذي يفعل الإحسان ثم يمن.
فالمنان واقع في كبيرة من كبائر الذنوب، والله عز وجل يقول:{ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى} هكذا الأذى من مفسدات الصدقة، تؤذي من أحسنت إليه بقول أو فعل، والمن من جملة الأذى، نص الله عليه لشدته ولقبحه، وإلا فإنه من جملة الأذى، وهكذا المفسد الأخير الرياء ينفق النفقة ما هو من أجل الله عز وجل، ولا يريد الثواب من الله عز وجل، وإنما يريد الثواب من الناس، فكل هذا من مفسدات النفقات، وهؤلاء الأبرار لم يكونوا كذلك، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوساً،  أي ذو عبوس، قمطريراً أي طويل شره، {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} أي في وجوههم جمال وبهاء، وسروراً أي في قلوبهم، فجمل لهما الظاهر والباطن لأنهم كانوا كذلك في الحياة الدنيا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يرحمنا برحمته إنه هو الغفور الرحيم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقة وجلها وأولها وآخرها وعلانيتها وسرها، اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، ربنا إننا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ من النار وما قرب إليها من قول وعمل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والحمد لله رب العالمين.



جميع الحقوق محفوظة لـ الموقع الرسمي للشيخ أبي بكر الحمادي