الرئيسية / الخطب والمحاضرات/ الخطب /المسك المختوم في ذكر التوسط المحمود والمذموم
المسك المختوم في ذكر التوسط المحمود والمذموم 2023-01-21 03:19:42


خطبة جمعة بعنوان (المسك المختوم في ذكر التوسط المحمود والمذموم)

لشيخنا الفاضل أبي بكر الحمادي حفظه الله ورعاه

سجلت بتأريخ ٢٧جماد ثاني ١٤٤٤ه‍

مسجد النور/ الزرعان/ مدينة القاعدة / محافظة إب

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه و على آله و صحبه و سلم.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71]

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143].

فهذه الأمة وهي أمة الإسلام أمة محمد عليه الصلاة والسلام، جعلها الله سبحانه وتعالى أمة وسطاً،

أي عدولاً خياراً، فجعلهم الله سبحانه وتعالى عدولا، وجعلهم خيارا، وجعلهم شهداء على الأمم الماضية، لتكونوا شهداء على الناس، فهذه هي أكرم أمة، وهي أشرف أمة، ونبيها هو أكرم الأنبياء، وأشرف الأنبياء، وكتابها هو أعظم الكتب وهو المهيمن على الكتب الماضية، وكذلك جعلناكم أمة وسطا، وليس المراد بذلك التوسط بين شيئين، فإن هذه الأمة إنما جاءت في آخر الأمم ولم تأتي متوسطة في الأمم الماضية، وإنما جعلها الله سبحانه وتعالى هي خير الأمم، وجعلها أفضل الأمم، وكذلك جعلناكم أمة وسطا، وهذه الأمة هي العدل وهي الخيار، والتوسط بين الشيئين قد يكون محمودا، وقد يكون مذموما، وقول الله سبحانه وتعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}[البقرة:238].

إما على معنى الفضلى فهي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر، أو لأنها متوسطة بين نهاريتين وصلاتين ليليتين، فالعصر متوسطة بين الفجر وهي صلاة النهارية والظهر، وبين صلاتين ليليتين وهما المغرب والعشاء، وهي صلاة فضلى شرفها الله سبحانه وتعالى ورفع من شأنها، فعلى كل التوسط بين الشيئين قد يكون محمودا، وقد يكون مذموما، فالتوسط في باب العبادة بين الغلو وهو مجاوزة الحد وبين التفريط بين الإفراط وبين التفريط محمود جاءت به الشريعة، فإن الغلو في باب الدين ومجاوزة المشروع إلى غير المشروع من البدع ومن المحدثات مما جاء النهي عنه، قال عليه الصلاة والسلام:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"؛ "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

وهكذا التفريط بأن يترك العبد ما افترض الله سبحانه وتعالى عليه، ويقع العبد في المحرمات فهذا مذموم، والتوسط بين هذين محمود، وكان هذا هو هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما جاء الثلاثة النفر كما في الصحيحين من حديث أنس إلى بيوت أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وسألوا عن عبادة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلما علموا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، أي رأوها قليلة، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الثالث : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، فبلغ الخبر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يقرهم النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الأمر الذي أرادوا به الخير، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام :" أما أنا فأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. فسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي التوسط بين الأمرين، بين الإفراط وبين التفريط، وهكذا في حديث عائشة في الصحيحين لما أخبرت النبي عليه الصلاة والسلام عن امرأة ومالها من العبادة الذي تجاوزت فيه الحد المشروع، تجاوزت هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : مه عليكم من العمل ما تطيقون.

وفي الصحيحين عن أنس أن النبي الصلاة والسلام دخل فرأى حبلاً بين ساريتين فقال ما هذا؟ قالوا: هذا حبل لزينب أي لزوج النبي عليه الصلاة والسلام فإذا ما فترت تعلقت به، أرادت أن تعتمد عليه في قيامها صلاتها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حلوه ليصلي أحدكم نشاطه فإذا ما فتر فليقعد.

وفي مسلم من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال :" كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا وكانت خطبته قصدا.

أي كانت متوسطة بين الإفراط والتفريط، فكانت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام متوسطة ليس فيها إطالة شديدة، وليس فيها تقصير بالغ،  وإنما بين وبين، وهكذا كانت خطبة النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن طويلة ولم تكن قصيرة، لم تكن طويلة مملة، ولم تكن قصيرة مخلة وإنما بين وبين، كان صلاته وسطاً وكانت خطبة النبي عليه الصلاة والسلام وسطاً.

وفي مسلم من حديث عمار رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:" إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ؛ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ.

أي دليل على فقهه.

وهكذا التوسط في كفارة اليمين مما جاءت به الشريعة، قال الله سبحانه وتعالى :"لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}[المائدة:89].

فلا يجب على المكفر كفارة اليمين أن يخرج أغلى ما يطعم أهله، ولا يخرج في المقابل أدنى ما يطعم أهله، وإنما ينظر إلى الوسط، فيخرج هذا الوسط في كفارة يمينه، إن أخرج ما دون ذلك فإن ذلك لا يجزئه، وإن أخرج ما هو أرفع من ذلك فهذا كرم وجود وهو يجزئه، فما زاد فهو مجزئ وما نقص عن ذلك فليس بمجزئ، والذي أوجبه الله سبحانه وتعالى وجعله مسقطاً للإثم هو أن يخرج الشخص أن يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله، فهذا  توسط محمود شرعه رب العالمين سبحانه وتعالى، وهكذا التوسط في باب النفقات فإنه من التوسط المحمود الذي أمر به رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو بين الإسراف وبين البخل لا يكون العبد مسرفاً يتجاوز الحد في باب النفقات ولا يكن بخيلاً حريصا على جمع المال فيكون جموعا منوعا، وإنما بين وبين يتوسط بين الأمرين، قال سبحانه وتعالى :{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67)}[الفرقان:67].

وقال الله:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ}[الإسراء:29].

أي لا تكن بخيلاً، ولا تبسطها كل البسط فتتجاوز الحد في الإنفاق، لا هذا ولا هذا، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا، ملوما إن بخلت لامك الناس وطعنوا فيك وقالوا فلان بخيل فلان شحيح، وإن بسطت يدك في العطاء والإنفاق وتجاوزت الحد ربما ذهب مالك وبقيت حسيرا ندماناً على مالك، فبين وبين هذا الذي أمر به رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا توسط محمود حث عليه رب العالمين وتعالى، وهنالك من التوسط ما هو مذموم في شرع الله عز وجل، كحال المنافقين الذين جعلوا أنفسهم وسطاً بين المؤمنين وبين الكافرين، لا هم من المؤمنين ظاهراً وباطناً، ولا هم من الكافرين ظاهراً وباطناً، وإنما هم من الكافرين باعتبار الباطن ويتظاهرون بأنهم مع المسلمين باعتبار الظاهر، كما قال سبحانه وتعالى :{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ}[النساء:143].

فهم بين وبين فتوسطهم توسط مذموم، بل وقعوا في أعظم الذنب:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}[النساء:145].

فتوسطهم من التوسط المذموم فإياك أن تتوسط هذا التوسط المذموم المبغوض عند رب العالمين سبحانه وتعالى.

أسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته واستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.

 

*الخطبة الثانية:*

الحمد لله والصلاة، والسلام على رسول الله،وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: اعلموا معشر المسلمين أن جملة التوسط المذموم التوسط بين الجالسين، بأن يمر الشخص في وسط الجالسين، أو يقعد بين رجلين من غير إذنهما فيتوسط ما بينهما فإن هذا من التوسط المذموم الذي ذمه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:" لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما.

 فلا تتوسط بين رجلين إلا بإذنهما، فإن هذا من سوء الأدب، فقد يكون بين الرجلين الجالسين شيء من الكلام، وشيء من الصحبة، فيحب أحدهم أن يجلس مع أخيه فإذا جاء شخص وجلس بينهما من غير إذنهما فإن هذا من التوسط المذموم، وهكذا التوسط في السير بأن يسير الشخص بين رجلين فيتخطى الرقاب ويؤذي الناس، يؤذي الناس في سيره بتخطي رقابهم وهم جلوس، فإن هذا من التوسط المذموم وليس هذا من الأدب، وفي حديث عبد الله بن بسر لما دخل المسجد وصار يتخطى رقاب الناس والنبي عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة قال له النبي عليه الصلاة والسلام:" اجلس فقد آذيت.

يجلس الشخص في أقرب موضع له، ولا يرفع قدميه على رقاب الناس، فإن هذا من التوسط المذموم لما فيه من الأذية، وفي حديث سلمان رضي الله عنه في الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام:" مَنِ اغْتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ، وتَطَهَّرَ بما اسْتَطَاعَ مِن طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أوْ مَسَّ مِن طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بيْنَ اثْنَيْنِ، فَصَلَّى ما كُتِبَ له، ثُمَّ إذَا خَرَجَ الإمَامُ أنْصَتَ، غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى.

فينال هذه المغفرة بهذا الشرط، ألا يفرق بين رجلين جالسين، يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يؤذي أحدا، إذاً هذا من التوسط المذموم، السير في هذا الموضع الوسط بين رجلين، أو الجلوس بين رجلين من غير إذنهما لما في ذلك من الأذية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا من هذا الباب التوسط في الجلوس بين الظل والشمس يكون وسطاً نصفه في الظل ونصفه في الشمس، فإن هذا مما جاء النهي عنه، جاء عند ابن ماجة من حديث بريدة قال :" نهى النبي عليه الصلاة والسلام بين الجلوس في الظل والشمس.

وهكذا في المسند من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه :" فإنها قعدت الشيطان.

الجلوس بين الظل والشمس، فهذا التوسط في الجلوس توسط مذموم ذمه نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يجلس الإنسان بين ظل وشمس إلا إذا ضاق به المجلس، فإن ضاق به المجلس فهو معذور، وإن كان في سعة في جلوسه فلا يجلس بين ظل وشمس، فهذا التوسط من التوسط المذموم، وفي بعض الأحاديث كما عرفنا أن هذا الجلوس هو قعدت الشيطان كما جاء ذلك في بعض الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.

معاشر المسلمين: الواجب على العبد أن يتحرى أمر الشريعة في كل شيء، وأن يكون متوسطاً إذا كان التوسط هو الذي جاءت به الشريعة، وإذا لم تأتي بذلك الشريعة فليتمسك بالشريعة على كل حال، قد تأتي الشريعة بأحد الطرفين كما عرفنا فيما مضى، وقد يكون التوسط مذموما، وقد يكون التوسط محمودا، فالواجب على العبد أن يراعي أحكام الشريعة على أي حال، وأن يدور مع كتاب الله عز وجل ، ومع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان محموداً من التوسط قام به، وما كان مذموما منه ابتعد عنه وانزجر، وليدر مع كتاب الله حيث دار، ومع سنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، بهذا يكون العبد قد حقق العبودية لربه سبحانه وتعالى ولم يكن متبعا لهواه.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأن يرحمنا برحمته إنه هو الغفور الرحيم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها وأولها وآخرها وعلانيتها وسرها، اللهم اهدنا إلى الصراط المستقيم واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب اليها من قول وعمل، ربنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، والحمد لله رب العالمين. 



جميع الحقوق محفوظة لـ الموقع الرسمي للشيخ أبي بكر الحمادي